السبت، 14 يوليو 2012

لأنها من العاشقين _الجزء الخامس والأخير_



بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد 

أشكركم أعزائي زوّار المدونة جميعًا وقد أسعدني تفاعلكم مع الجزء السابق وقد افادتني كثيرًا انتقاداتكم البنّاءة وأقدّم شكري لمن صمّمت الصورة الخاصة بالقصة الصديقة العزيزة (مريم العنكي) وعلى الحُسين ثوابها 
متمنيةً لكم قراءةً ممتعة في الجزء الأخير من هذه القصة (الجزء الذي أنهكني كثيرًا وسلب قوتي)
أتقبّل نقدكم حوله وأتمنى أن تكونوا دومًا بالقرب من مدونتي 
***
(5) 
وكانت ماتزال منذ وفاته تجلس كل سحَرٍ في غرفته وتهدي له بعض السور والركعات وتُقلِّب أغراضه تتذكره فيها . ذات ليلةٍ وهي تعبث بوسادته أحسّت أن بداخلها شيء ،حاولت إخراجه وإذا هو مظروفٌ مكتوبٌ عليه (إلى زينب ) ،فأسرعت تريد فتحه.

فتحت المظروف وفيه ورقةٌ أخرجتها وبدأت تقرأ :
(                                                               بسم الله الرحمن الرحيم
                                                           اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد
أوصيكِ أخيتي زينب بالصبر الجميل والالتزام بالنهج الزينبي دومًا كما عهدتكِ زينبيةً في صبركِ ،وإني يا أخية تائقٌ إلى لقاء سيدي الحُسين كما تعلمين ،واليوم أشعر بإحساسٍ لم أشعر بهِ من قبل وكأن أحشائي تتقطّع وقلبي يتمزق إربًا من فرط ما حلَّ بي من الشوق ،فربما قد دنت منيتي .ومن يدري فقد لا يأذنُ ربي أن أذهب وإياكِ معًا إلى مولانا ،فأوصيكِ أخية
إذا أخذني ربي إلى جواره وفي رحمته فلا تتركي الزيارة واذهبي برفقة اخيكِ حسين فسيكون نعم الرفيق في السفر وسأكون مستقبِلًا لكِ هناك إن أذِن الحُسين لي.
والسلام عليكِ ورحمةُ الله..

                                                                                                              علي
                                                                                                     20/2                                                 )

اتسعت حدقتا عيناها بعد أن كانت تسكب الدمع ،نظرت إلى تاريخ هذهِ الرسالة فإذا هو ذات اليوم الذي توفي فيه أخوها ،(أيُ عطفٍ يا أخي ذاك الذي وهبكَ إياهُ الحُسين ! نعم لقد نلت كرامته وأنا سأنفذُ الوصيةَ ياشقيقي)
نهضت وتلك الرسالة في يدها تقصدُ حسينًا لتخبره بما وجدت فأخذها وقرأها ،تذكّر أخاه وبكى. تأوّهت زينب في قلبها لكنها لم تبكِ ،كانت تنتظرُ إجابة أخيها على ما قرأه.
_هل رضيتِ الآن بالذهاب يا أُخية؟
_نعم، إنها رغبته ،واحمرّت عيناها وكأنها تُصارع دموعها ألا تخرج من مقلتيها.
_ أنا لم ألغِ الحجز كما طلبتِ مني قبل أيام ،فالحمدلله أنني لم أفعل وها نحنُ على أبواب رجب الأصب فلتتهيأي يا أختاه.
_أتمنى أن يُطيل الله في أعمارنا لنبلغ ذلك اليوم .
_هيا قومي لنومكِ واريحي بدنكِ ،تصبحين على خير.
_تصبحُ على خير يا أخي ،تحفظك عينُ الرحمن.
لم يستطِع حسين النوم في تلك الليلة والأفكار تراوده هل كان علي مُبشّرًا بدنو أجله أم كان ماكتبه محضُ صدفة؟! وليس بالغريب أن يكون مستشعرًا بذلك فالمؤمنين أمثاله ذوي الأرواح الشفافة قد تشعرُ أرواحهم بمثل ذلك ومن يدري فلقد كان علي يوقظني مرارًا على صوتِ مناجاته وكان يسهرُ ليالي الجُمَع إلى الفجر بين تراتيل القرآن ووجْدهِ على الحُسين ،لا أذكر أن عليًا ترك صلاة الليل ذات ليلةٍ أبدًا ،وكيف أنسى أحياؤه الليالي المباركة مع زينب.
زينب؟ وكيف لي أن أملأ جزءًا بسيطًا من الفراغ الذي خلّفه رحيل علي عنها وهو من كان لها التوأم الروحي ،لم تكن علاقتهما أخٌ وأختٌ فقط بل كانا كغيمتان اصطدمتا فأمطرت لتُزهر الأرض وتخضّر ،هما كذلك في تعاونهما وبث روح الحياة في البيت ،إلهي ساعدني أن أكون لزينب نموذجًا من علي.
*****
انقضت أيامُ رجب وأقبل شهر البركات شعبان ،وكل ما مضى منه يومٌ ازدادت جمرةُ الشوقِ في قلب زينب إلى لُقيا كربلاء ، وكان من المقرر أن تكون رحلتهما يوم السابع من شعبان. اقبل اليوم الخامس وبدأت زينب في الاستعداد للسفر وحزمت حقيبتها للرحيل والشوقُ بها لايخبو أبدًا وظلت في اضطرابٍ حتى أتى يوم الرحيل. التفتت زينب إلى يدها فقالت: لقد نسيته ! ثم توجهت إلى غرفة علي وانحنت على المصلى والتقطت خاتم العقيق ولبسته في يدها اليمنى.
ودّع الأخوان أبواهما وداعًا حارًا ملؤه الشجَن ثم انطلقا يقصدان الجنة ، في طريقهما إلى المطار حدّثها حسين عن أنه سيكون لها نِعم الرفيق في السفر وقال لها لاتترددي في طلب أي شيءٍ مني. رأى حسين في حديثها ما أذهله فلقد اسمعتهُ من شوقها عجَبًا ،فهو لم يعرفها كثيرًا ولم يكن بكثير التحدث معها.
ما زالا يتحدثان حتى وصلا إلى المطار واتجه حسين إلى ختم الجوازات وما يتبعها فما كانت إلا دقائق حتى أُعلن عن رحلتهما. صعدا الطائرة وجلست زينب بالقرب من النافذة وما ان اقلعت الطائرة حتى بدأت دموعها تنهمر . مضت مدة الطيران وحان موعد الهبوط في مطار النجف الأشرف ،عمَّ السكون الطائرة وكان البكاء سيد الموقف وزينبُ لاتشعرُ بنفسها فلقد سيطرت عليها حالةٌ لاتستوعبها سوى الدموع. هبطت الطائرةُ بسلام في مدينة السلام وخاطب حسين أخته هيا يا أخية قومي بسرعة لكي يسعنا الوقت ونذهب للزيارة قبل صلاة الظهر ،لكن زينب لم تنهض وأحسّت كأنها شُلَّت من الفرح فساعدها حسين على القيام فنهضت قائلةً : ياعلي أدركني.
وصلا إلى الفندق ووضعا حقائبهما ثم اغتسلا غُسل الزيارة ،فلا أدري هل اغتسلا من مياهِ النجف حقًا أم من مياهِ عينيهما المنسكبة! لما فرغا خرجا يقصدان أمير المؤمنين ومأوى العاشقين ،وكانت تزداد معرفة حسين بأخته وكم أنها عاشقةٌ مخلصة  وكانت كثيرًا ماتُبكيه كلما كفَّ عن البكاء ، مشيا وهما لايكادان يبصران شيئًا من كثرة بكائهما لحتى بانت أنوار تلك القبة البيضاء التي استحت منها الشمس . افترقا ليدخل كلٌ منهما إلى الحرم العلوي وصلت زينب إلى الأعتاب الطاهرة فأهوت ساجدةً تحمدُ الله وتقبّل تلك العتبات ،قامت وجعلت تخاطب الأمير : ( سيدي أبا الحسن ،أشكرك ياحبيبي ان قبلتني زائرةً لك ،أشكرك لأنك جعلتني أزور الجنة التي لم يكن حُسنها يخطر على قلبي ، فيا أميري بقيت لي حاجة أودعها لديك)
ومضت الأيام وهما في جنة الأمير حتى جاء يوم الرابع عشر وهمَّا بالخروج مشيًا لكربلاء (مهوى القلوب) وكان مرادهما أن يصلاها فجرًا مع اقتراب موعد ولادة حجة الله في أرضه ،فانطلقا في مسير العشق يقصُدانِ الإباء ،يقصُدانِ التضحية والأخوّة ، رددّت بينها وبينها (إلـ جنة عدن قصدنا وبروضتك وعدنا ..مشّاية نرفع مستهل حيَّ على خير العمل يا حُسين)، ورأت العجائب في ذلك الطريق فليست الجنة أجمل من كربلاء ،فهي واللهِ الجنةُ السرمدية.
اقترب الفجر وبانت أنوارُ كربلاء لها ،أجهشت بالبكاء بقوةٍ وقالت بصوتٍ مسموع (ياحبيبي يا حُسين ، نور عيني يا حُسين) . وفجأةً سمعت صوت حسين يقول :ابتعدي من هنا بسرعةٍ يا زينب! وصوتٌ آخر بدا مألوفًا لديها يقول: قفي يازينب مكانكِ ! فأطاع قلبها الصوت الآخر وكفَّت عن البُكاء ورأت العالم يزدادُ نورًا حولها وسطعت قبة المولى أمامها فخرّت تهوي إلى الأرض فتلقّفها أحدهُم ،نظرت إلى وجههِ المكلل بالنور وهو يقول :مرحبًا بكِ في الجنة ياشقيقة روحي زينب !!
نعم لقد تلّقى عليٌّ روحها كما وعدها هناك عند الحُسين مستمدًا وفاءه من أبو الفضل أبو الوفاء ، فلقد أخذ التفجير الغاشم روحها وأصبحت في عداد الشهداء !

مضت أيامُ الزيارة ورجع حسين وحيدًا قد خلت يداه من زينب ،استقبلتهُ أمه الشائقة إليهما :أهلاً بثمرةِ قلبي.. أين زينب؟ أين أختك يا ولدي؟
فسبقتهُ دموعهُ وأجاب : لقد استُشهدت يا أماه .. لقد لحقت بعليٍّ وركب السبايا .. استُشهدت وبقيتُ أنا يا أماه .. تركتني وحيدًا .. استُشهدت لأنها من العاشقين !

** تمت بحمد الله**

السبت، 7 يوليو 2012

لأنها من العاشقين _الجزء الرابع_


بسم الله الرحمن الرحيم 
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد 

ومازلتم أعزائي تذهلونني بتشجيعكم ومتابعتكم لقصتي .. فأرجو أن أكون عند حسن توقعاتكم ..
***


(4)
أخذ عليٌّ بيدها وأسرع بها إلى زاوية من البيت وهمس في أذنها :
_ماذا تُعطيني إذا أخبرتكِ بخبرٍ يسركِ في جعبتي ؟
_ قل بسرعة ولاتزد توتري ،لك ماتريد .
_ لا أريد شيئًا فقط اريد أن أفرحكِ ، زينب بإذن الله سوف نذهب إلى الحُسين في الشعبانية .
لم تعِ زينب مايقول أخوها إلا أنها صمتت برهةً والدموعُ في عينيها ،تلك دموع الفرح ،دموع الشوق 

دخلت إلى غرفتها وأخذت تجهش ببكاءٍ عالٍ حتى أحمرَّ محجريها بعدما أصابتها موجةٌ من الصمت، كانت قد نذرت لله نذرًا أن تصلي ألفًا من الركعات تهديها إلى أم البنين إن هي وُفِّقت إلى زيارة المولى الحسين ، وأخذت تهيأ نفسها لأداء النذر وهي تشكر الله على إجابة دعائها وأي دنيا تسع فرحتها بلقاء المعشوق الذي أخذ بجوامع قلبها وروحها بدأت تصلي وتركع حتى أُجهدت وذهبت لتنام وترتاح قليلًا.
كان ذلك اليوم بالرغم من أنه الأربعين وزينب قلبها فيه حزين إلا أنها قريرة العين بخبر الزيارة وبرجوع أبيها وعلي ،علي الذي هو بمثابة الروح لها ففالأيام السالفة افتقدته بشدة وافتقدت أحاديثهما الوجدانية معًا ،افتقدت زيارتهما للإمام الحسين معًا كل صباح. نامت زينب وكلها إرهاق ،وألفت كل الراحة في ذلك النوم.

كان علي يجلس في غرفته وهو يحادث حسينًا :
_لو تعلم يا أخي
كم أتوق لمعرفة حجم سعادة أختك بزيارة سيدي الحسين !
_هنيئاً لكما ،ليتني كنت استطيع الذهاب لكن سأكون منشغلاً في ذلك الوقت ،اتمنى لو اسبقكما .قال كلمته الأخيرة بنظرةٍ ساخرة
_إذن اسبقنا ماذا تنتظر؟ وما الذي يشغلك؟ أبوك لن يذهب في الشعبانية لأنه مشغول بسفرٍِ عمل وأمك لن تترك محمدًا وحده ، لذلك سأذهب أنا مع زينب فقد لا يسعنا الوقت بعد هذه الفرصة.
ظلَّ الأخوان يتحدثان في مواضيع شتى إلى أن قال حسين:
_ أُخيي علي ، أقرر بيني و بين نفسي أن أتغير ،أريد أن أهتم أكثر بأمي ،بالاجتماع معكم وتناول الطعام معكم.
كان علي متكئًا فاستوى جالسًا بسرعة يشجعه على ذلك بحماس
_نعم يا أخي ،قم من الآن واذهب لأمك وتحدث معها ،ستفرح كثيرًا .
خرج حسين من الغرفة وبقي علي يفكر في سفره ويُعد نفسه من الآن ويقول في نفسه سأسافر إلى الجنة ،أخذ يرتب وسادته ثم استلقى على فراشه وسلّم على الحسين واغمض عينيه ليرتاح.
*****
كانت الحادية عشرة صباحًا وقد استيقظ من نومه محمد ،بعد أن رأى والده جاء يقصد غرفة علي .رآه مستلقيًا على فراشه فاقترب إليه يوقظه وكان معتادًا أن يدغدغ أذنه ويستيقظ فورًا ، أخذ محمد يعبث بأذن علي مرارًا ولا من حركة ولم يستجب علي لأخيه.
أسرع محمد إلى أبيه قائلًا :
_أبة ،إن علي لايستيقظ ولايتحرك أبدًا.
_ربما لأنه متعبٌ من السفر يا ولدي
_لكنه لاينام هكذا بعد مجيئه في أسفاره السابقة .
_ لقد أخفتني يا ولدي ،لنذهب إليه .
ذهب الوالد والابن إلى غرفة علي وبدأ أبوه يحرّكه ويكلّمه ولا من مجيب ،جاس نبضه ومن ثم أيقن أن الأمانة قد رُدّت إلى صاحبها .
خرَّ الأب باكيًا بجانب ولده المُسجَّى وهو يخاطب محمدًا :
_ مات أخوك يامحمد ، مات !
_هل تقصد يا والدي أنه ذهب إلى الجنة وتركني ؟!
حينها أجهش الأب بالبكاء واعتلى صوته ،فهرولت أم علي نحوهم لما سمعت صوت البكاء.
_ماذا دهاكم ؟ لماذا تبكون؟
_ ثمرة شبابنا يا خديجة قد ذبُلت ،وأكسير فؤادنا قد فنَى !
حينها صرخت صرخة الثكول وغابت عن وعيها ساقطةً على جسد ولدها الفاني .

انتبهت زينب من نومها منزعجة من كثرة الأصوات ولم تكن تسمع غير أصواتٍ ممزوجةٍ بالبكاء تنادي (حبيبي علي ) . نهضت وأخذت تمشي وتعثرُ في مشيها وقد صارعت روحها ألا تخرج منها حتى وصلت إلى غرفة شقيقها ورأت قلبها ملقىً بجانب أخيها ممزقًا ،فلم تلتفت إلا وهي جالسةٌ عنده واضعةً خدها على كفه الأيمن وتناجيه بصوتٍ محزون يكاد يخبو : (علي ألم نتعاهد أن نلقى الحسين سويًا؟ ألم تعدني أن نشد الرحال إليه معًا؟ لماذا سبقتني إليه؟ ألستُ مشتاقةً إلى قربه مثلك؟ أخي علي لماذا تركتني وحدي ؟ أين العهود التي قطعناها؟ )
وكأن والديها كان ينقصهما حضورها ليبكيا أكثر على فلذة كبدهما ،زينب لم تصرخ ولم تجزع على أخيها لكن كل من رأى حالها لم يرجع دون أن يُجرح قلبه .
مضت أيام العزاء ولم تدَع زينب ليلة تمر عليها دون أن تهَبَ روح أخيها جزءًا من القرآن. واقترب أربعين يومًا على وفاته وكانت تعلم أن والدتها تنوي إقامة مجلس الأربعين يومًا فقالت لها :
_ أماه ،لا أربعين إلا للحسين عليه السلام فنحن لم نعرف الأربعين لغيره
_لكنني جهّزت لذلك يا بنية
_ إن كان كذلك فاقرأي أربعين الحسين وأهدي ثوابها لعلي أخي وقولي أنه مأتم الحسين.
_ نِعم الرأي رأيك يا نور بصري .

مرّت الأيام وقد رفضت زينب الذهاب إلى كربلاء بعد أن ذهب نور عينها ورفيق سفرها وباءت محاولات أبويها بالفشل لاقناعها بالذهاب وأن علي قد سبقها إلى لقاء الحسين ، وكانت ماتزال منذ وافته تجلس كل سحَرٍ في غرفته وتهدي له بعض السور والركعات وتُقلِّب أغراضه تتذكره فيها . ذات ليلةٍ وهي تعبث بوسادته أحسّت أن بداخلها شيء ،حاولت إخراجه وإذا هو مظروفٌ مكتوبٌ عليه (إلى زينب ) ،فأسرعت تريد فتحه.


الأحد، 1 يوليو 2012

لأنها من العاشقين_الجزء الثالث_



بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد

أحبتي زوّار المدونة اعتذر بشدة عن تأخر هذا الجزء وذلك نظرًا لظروف التقديم للجامعات والتجهيز لميلاد القائم المؤمل روحي فداه
وقد شغلني ذلك بعض الشي ..
شكرًا لكل من سأل عن سبب التأخير ، وشكرًا لجميع من يشجعني 

(3)
أشاحت بنظرها إلى غرفة محمد المقابلة لمكان جلوسها وإذا بأخيها ملقىً أرضًا ، وثبت بسرعة حتى وصلت عنده خائفة..
رأتهُ يحاول جاهدًا أن يتنفس دون أن يتناول شيئًا من الهواء ،كان محمد مصابًا بالربو وازدادت في تلك الأيام نوبات الربو لديه لشدة الغبار ،شهق محمد بقوة بعد أن أعطته نفحةً من موسع الشعب الهوائية أو كما تسميها زينب (علبة الحياة)..
قال لها وهو يبكي : كدتُ أموتُ يازينب ،كدت أموت
_لايانور عيني ،لايموت إنسانٌ قبل يومه الذي كتبه الله له ،لكن لاتنسَ دوائك وضع هذه العلبة في جيبك دائمًا.
*****
كان وقت صلاة الظهر وحرم المولى الحسين مكتظٌ بالزائرين من البشر والملائكة ،لحظاتٌ وإذا بصوت الأذان يعتلي ويشوب الجو بروحانيةٍ أكثر مما هو مليءٌ بها وكأن ذاك المكان المقدّس هو الذي يعطي الأذان قدسيته وروحانيته
اصطفت الجموع وسادت الأجواء هيبةً ملكوتية وبدأت مراسيم العشق والعروج إلى المطلق وكبّر إمام الصلاة،ومازالت كربلاء تتوافدُ إليها الحشود المؤمنة فليلةُ الأربعين أوشكت على المجيء لتصُّم آذان العالم بصوت شكوى زينبٍ إلى العباس.
وأقبل عصر ذلك اليوم وكعادة زهراء تمرُ زينباً لتصطحبها للمأتم وكانت زينب متأهبة تنتظرها ولم تتحرك ذلك اليوم من أمام التلفاز تريد أن تُشبع ناظريها ولا مِن شبَع.
ذهبت إلى المأتم وندبت ولطمت وأعولت كما الفاقدُ نور بصره ثم لما حان وقت الدعاء توجهت بروحها قبل قلبها إلى الحسين وقالت: سيدي أسألك بحق أختك الحزينة القادمةِ إليك ،بحق ابنك العليل المرضوض ساقه .هب والدي عافيةً هذه الليلة يامن أنت أحبُ إليَّ من أبي وأقرب .
لم يكن قسمُ زينبٍ
هينًا على المولى فالحوراء زينب هي الروح للحسين وهي المهجة
ظلت زينب تبكي وتنوح إلى أن شعرت بأنها لاتستطيع التنفس فهوت مغمًى عليها ،لم تكن تلك إغماءةُ تعب لكنها كانت غفوةُ عشقٍ وإكرام.نعم فلقد سمعت صوتًا يقول : (قرّي عينًا يازينب فأبوكِ في حماي)
عادت إلى وعيها بعد أن رششوها بقطراتٍ من الماء .
في تلك الأثناء كان أبا علي في المشفى مستيقظًا وإذا به يشعر بأنه لايرى شيئًا وكأنه لايوجدٌ أحد في ذلك المكان ،ثم رأى نورًا أعشى بصره ورآه شيئًا فشيئًا يقترب منه وقال له : (قُم ،قُم عزّي الرسول بابنه الحُسين)
أجابه بهلع :
_أنا لا أقوى على القيام
_بلى ،بقدرة الله أنت تقوى
فما كان منه إلا أن قام وكأنه لم يصب بمكروه أبدًا فخاطبه قائلًا : من أنت ياسيدي أيها الكريم؟
_ أنا الذي توسلَت بي كريمتك وآلمت قلبي بأعز قسَم .

قام سريعًا يبحث عن ذلك الرجل لكنه لم يجد له أثرًا ،نادى الممرضات وقال أخرجوني بسرعة إنني معافى ،ذهلوا جميعهن ونادوا طبيبه فلما رآه صُعق وخاطبه:
_كيف قمت وقد كانت حالتك ميؤسًا منها؟
_إنها قدرة ربي وبركات سادتي .
جاء عليٌّ في هذه الأثناء ورأى والده واقفًا ،لم يتمالك نفسه حتى خرَّ ساجدًا لله شاكرًا
ويقول الحمدلله على سلامتك يا أبتي .
_الحمدلله يا ولدي ،أريد الآن الذهاب إلى حرم الرسول بعد أن تُحضر لي ثيابًا نظيفة
_ أنا طوع أمرك يا والدي.
****
فور وصول زينب إلى منزلهم بدأت تُحدِّ ث والدتها عن ذلك الصوت الذي سمعته وانخرطت في البكاء،هدأتها أمها وقالت:
_زينب ،إنها الأربعين وقد حان المغرب فقومي للصلاة ولنستعد للذهاب إلى مآتم العزاء
لم تكد زينب تهم بالنهوض حتى رنَّ هاتف أمها وقد كان واضحًا أن المتحدث يُبشرها بشيء
_الحمدلله رب العالمين ،الحمدلله ،زينب لقد قام والدكِ من مرضه وكأنه لم يمرض
_استبشرت زينب وقالت :السلام عليك يا أبا عبدالله بأبي أنت وأمي ،وقالت بداخلها: (سيدي بقيت لي أمنية)
*****
مضت ليلةُ الأربعين وزينب ضمن جميع المؤمنين أمضت ليلتها في مجالس العزاء ..
أصبح الصباح وهي تنتظر أمام الشاشة ظهور (موكب بني عامر) في كربلاء ورؤية البياض الذي يغطيهم وكأنهم يقصدون الجنة وهو كذلك بالفعل !
بينما هي جالسةٌ وإذا بطارقٍ على الباب ،توجّست قليلاً من ذلك لكنها قالت :من الطارق؟؟.. ولا من مجيب !
قالت بسم الله وفتحت الباب:
وإذا بأبيها وعلي واقفان خلف الباب ،تفاجئت زينب بذلك حيث أنهما لم يخبرانها بالمجيء ،احتضنت والدها وهي تقول حمدًا لله على سلامتك يا أبة .. وأخذ والدها يُقبِّل جبينها
أخذ عليٌّ بيدها وأسرع بها إلى زاوية من البيت وهمس في أذنها :
_ماذا تُعطيني إذا أخبرتكِ بخبرٍ يسركِ في جعبتي ؟
_ قل بسرعة ولاتزد توتري ،لك ماتريد .
_ لا أريد شيئًا فقط اريد أن أفرحكِ ، زينب بإذن الله سوف نذهب إلى الحُسين في الشعبانية .
لم تعِ زينب مايقول أخوها إلا أنها صمتت برهةً والدموعُ في عينيها ،تلك دموع الفرح ،دموع الشوق ،قامت فورًا وقصدت غرفتها تتعثر في مشيها ..